فصل: ما ترشد إليه الآيات الكريمة:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.الأحكام الشرعية:

.الحكم الأول: ما هو الربا المحرّم في الشريعة الإسلامية؟

الربا الذي حرّمه الإسلام نوعان: ربا النسيئة وربا الفضل.
أما الأول ربا النسيئة: فهو الذي كان معروفًا في الجاهلية وهو أن يقرضه قدرًا معينًا من المال إلى زمن محدود كشهرٍ أو سنة مثلًا مع اشتراط الزيادة فيه نظير امتداد الأجل.
قال ابن جرير الطبري رحمه الله: إن الرجل في الجاهلية يكون له على الرجال مال إلى أجل، فإذا حلّ الأجل طلبه من صاحبه فيقول الذي عليه الدين أخّر عني ديْنَك وأزيدك على مالك، فيفعلان ذلك، فذلك هو الربا أضعافًا مضاعفة، فنهاهم الله عز وجل في إسلامهم عنه.
وهذا النوع من الربا هو المستعمل الآن في البنوك والمصارف المالية، حيث يأخذون نسبة معينة في المائة كخمسة أو عشرة في المائة ويدفعون الأموال إلى الشركات والأفراد.
أما الثاني ربا الفضل: فهو الذي وضحته السنّة النبوية المطهرة، وهو أن يبيع الشيء بنظيره مع زيادة أحد العوضين على الآخر، مثاله: أن يبيع كيلًا من القمح بكيلين من قمح آخر، أو رطلًا من العسل الشامي برطل ونصف من العسل الحجازي، وهكذا في جميع المكيلات والموزونات.
والقاعدة الفقهية في هذا النوع من التعامل هي أنه إذا اتحد الجنسان حرم الزيادة والنّساء، وإذا اختلف الجنسان حلّ التفاضل دون النساء.
وتوضيحًا لهذه القاعدة الفقهية نقول: إذا أردنا مبادلة عين بعين كزيت بزيت، أو قمح بقمح، أو عنبٍ بعنب، أو تمر بتمر، حرمت الزيادة مطلقًا ولا تعتبر الجودة والرداءة هنا، وإذا اختلفت الأجناس كقمح بشعير، أو زيت بتمر مثلًا جازت الزيادة فيه بشرط القبض لما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «الذهب بالذهب، والفضة بالفضة، والبُرّ بالبُرّ، والشعير بالشعير، والتمر بالتمر، والملح بالملح، مثلًا بمثلٍ، يدًا بيد، فمن زاد أو استزاد فقد أربى، الآخذ والمعطي فيه سواء» وفي حديث آخر «فإذا اختلفت هذه الأصناف فبيعوا كيف شئتم يدًا بيد» أي مقبوضًا وحالًا.

.الحكم الثاني: هل يباح الربا القليل؟ وما المراد من قوله تعالى: {لاَ تَأْكُلُواْ الرباوا أضعافا مضاعفة} [آل عمران: 130]؟

يذهب بعض ضعفاء الإيمان من مسلمي هذا العصر إلى أن الربا المحرم إنما هو الربا الفاحش، الذي تكون النسبة فيه مرتفعة، ويقصد منه استغلال حاجة الناس، أما الربا القليل الذي لا يتجاوز نسبته اثنين أو ثلاثة في المائة فإنه غير محرم، ويحتجون على دعواهم الباطلة بأنّ الله تبارك وتعالى إنما حرم الربا إذا كان فاحشًا حيث قال تبارك وتعالى: {لاَ تَأْكُلُواْ الرباوا أضعافا مضاعفة} [آل عمران: 130] فالنهي إنما جاء مشروطًا ومقيدًا وهو كونه مضاعفًا أضعافًا كثيرة، فإذا لم يكن كذلك، وكانت النسبة فيه يسيرة فلا وجه لتحريمه.
وللجواب على ذلك نقوله:
أولًا: إن قوله تعالى: {أضعافا مضاعفة} [آل عمران: 130] ليس قيدًا ولا شرطًا، وإنما هو لبيان الواقع الذي كان التعامل عليه أيام الجاهلية، كما يتضح من سبب النزول، وللتشنيع عليهم بأنّ في هذه المعاملة ظلمًا صارخًا وعدوانًا مبينًا، حيث كانوا يأخذون الربا مضاعفًا أضعافًا كثيرة.
ثانيًا: إن المسلمين قد أجمعوا على تحريم الربا قليله وكثيره، فهذا القول يعتبر خروجًا على الإجماع كما لا يخلو عن جهلٍ بأصول الشريعة الغراء، فإن قليل الربا يدعو إلى كثيره، فالإسلام حين يحرّم الشيء يحرّمه كليًا أخذًا بقاعدة سدّ الذرائع لأنه لو أباح القليل منه لجرّ ذلك إلى الكثير منه، والربا كالخمر في الحرمة فهل يقول مسلم عاقل إن القليل من الخمر حلال؟
ثالثًا: نقول لهؤلاء الجهلة من أنصاف المتعلمين: {أتؤمنون ببعض الكتاب وتكفرون ببعضٍ}؟ فلماذا تحتجون بهذه الآية على دعواكم الباطلة، ولا تقرؤون قوله تعالى: {وَأَحَلَّ الله البيع وَحَرَّمَ الرباوا} وقوله تعالى: {اتقوا الله وَذَرُواْ مَا بَقِيَ مِنَ الرباوا} وقوله تعالى: {يَمْحَقُ الله الرباوا وَيُرْبِي الصدقات} هل في هذه الآيات ما يقيد الربا بالقليل أو الكثير أم اللفظ مطلق؟ وكذلك قوله صلى الله عليه وسلم في حديث جابر لعن رسول الله آكل الربا، وموكله، وكاتبه، وشاهديه، وقال هم سواء فالربا محرم بجميع أنواعه بالنصوص القطعية، والقليل والكثير في الحرمة سواء. وصدق الله حيث يقول: {يَمْحَقُ الله الرباوا وَيُرْبِي الصدقات والله لاَ يُحِبُّ كُلَّ كَفَّارٍ أَثِيمٍ}.

.ما ترشد إليه الآيات الكريمة:

1- الربا جريمة اجتماعية ودينية خطيرة.
2- الربا من الكبائر التي يستحق صاحبها عذاب النار.
3- القليل من الربا والكثير في الحرمة سواء.
4- على المؤمن أن يقف عند حدود الشرع باجتناب ما حرّم الله عليه.
5- السلاح الذي يعصم المسلم من المخالفات إنما هو تقوى الله.

.خاتمة البحث:

حكمة التشريع:
اعتبرت الشريعة الإسلامية الربا من أكبر الجرائم الاجتماعية والدينية، وشنّت عليه حربًا لا هوادة فيها، وأوعد القرآ الكريم المتعاملين به عذابًا أليمًا في الدنيا والآخرة، ويكفي أن نعلم عظم هذه الجريمة النكراء من تصوير حالة المرابين بذلك التصوير الشنيع الذي صورهم به القرآن، صورة الشخص الذي به مسّ من الجن، فهو يتخبط ويهذي كالمجنون الذي أصيب في عقله وجسمه.
ولم يبلغ من تفظيع أمر من أمور الجاهلية- أراد الإسلام إبطاله- ما بلغ من تفظيع أمر الربا، ولا بلغ من التهديد في منكر من منكرات كما بلغ في شأن الربا، فالربا في نظر الإسلام جريمة الجرائم، وأساس المفاسد، وأصل الشرور والآثام، وهو الوجه الكالح الطالح الذي يقابل الصدقة والبر والإحسان.
الصدقة عطاء وسماحة، وطهارة وزكاة، وتعاون وتكافل... والربا شحّ، وقذارة، ودنس، وجشع، وأثرة، وأنانية.
الصدقة نزولٌ عن المال بلا عوضً ولا ردّ، والربا استرداد للدين ومعه زيادة حرام مقتطعة من جهد المدين أو من لحمه، جهده إن كان قد عمل بالمال الذي استدانه فربح نتيجة لكدّه وعمله، ومن لحمه إن لم يربح أو خسر، أو كان قد أخذ المال للنفقة على نفسه وأهله.
فلا عجب إذًا أن يعده الإسلام أعظم المنكرات والجرائم، الاجتماعية والدينية، وأن يعلن على المرابين الحرب {فَإِن لَّمْ تَفْعَلُواْ فَأْذَنُواْ بِحَرْبٍ مِّنَ الله وَرَسُولِهِ} وذلك للأضرار الفادحة والمساوئ التي تترتب عليه، ويمكننا أن نجمل هنا بعض هذه الأضرار في فقرات:
أولًا: ضرر الربا من الناحية النفسية.
ثانيًا: ضرر الربا من الناحية الاجتماعية.
ثالثًا: ضرر الربا من الناحية الاقتصادية.
أما ضرر الربا من الناحية النفسية: فإنه يولّد في الإنسان حب الأثرة والأنانية فلا يعرف إلا نفسه، ولا يهمه إلا مصلحته ونفعه، وبذلك تنعدم روح التضحية والإيثار، وتنعدم معاني حبّ الخير للأفراد والجماعات، وتحلّ محلها حبّ الذات والأثرة والأنانية، وتتلاشى الروابط الأخوية بين الإنسان وأخيه الإنسان فيغدوا الإنسان المرابي وحشًا مفترسًا لا يهمه من الحياة إلا جمع المال، وامتصاص دماء الناس، واستلاب ما في أيديهم، ويصبح ذئبًا ضاريًا في صورة إنسان وديع، وهكذا تنعدم معاني الخير والنبل في نفوس الناس ويحل محلها الجشع والطمع.
أما ضرر الربا من الناحية الاجتماعية: فإنه يولّد العداوة والبغضاء بين أفراد المجتمع ويدعو إلى تفكيك الروابط الإنسانية والاجتماعية بين طبقات الناس، ويقضي على كل مظاهر الشفقة والحنان، والتعاون والإحسان في نفوس البشر، بل إنه ليزرع في القلب الحسد والبغضاء، ويدمّر قواعد المحبة والإخاء، ومن المقطوع به أن الشخص الذي لا تسكن قلبَه الشفقةُ والرحمةُ ولا يعرف معنى للأخوة الإنسانية سوف يعدم كل احترام أو عطفٍ من أبناء مجتمعة، وتكون النظرة إليه نظرة إزدراء واحتقار، وكفى المرابي مقتًا وهوانًا أنه عدو لمجتمعه ولأبناء وطنه بل إنه عدوّ للإنسانية لأنه يمتص دماء البشر عن طريق استغلال حاجتهم واضطرارهم.
أما ضرر الربا من الناحية الاقتصادية: فهو ظاهر كل الظهور لأنه يقسم الناس إلى طبقتين: طبقة مترفة تعيش على النعيم والرفاهية، والتمتع بعرق جبين الآخرين وطبقة معدمة تعيش على الفاقة والحاجة، والبؤس والحرمان، وبذلك ينشأ الصراع بين هاتين الطبقتين، وقد ثبت أن الربا أعظم عامل من عوامل تضخم الثروات وتكدسها في أيدي فئة قليلة من البشر، وأنه سبب البلاء الذي حلّ بالأمم والجماعات حيث كثرت المحن والفتن، وزادادت الثورات الداخلية وإنا لله وإنا إليه راجعون. اهـ.

.من لطائف وفوائد المفسرين:

.من لطائف القشيري في الآية:

{وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ ما كَسَبَتْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ (281)}.
الرجوع على ضربين:
بالأبشار والنفوس غدًا عند التوفي، وبالأسرار والقلوب في كل نَفَسٍ محاسبة؛ نقدٌ ووعد، فنَقْدُ مطالبته أحقُّ مما سيكون في القيامة من وعده.
وقال للعوام: {وَاتَّقُوا يَوْمًا} وقال للخواص: {وَإِيَّاىَ فَاتَّقُونِ}. اهـ.

.من فوائد الألوسي في الآية:

{واتقوا يَوْمًا} وهو يوم القيامة أو يوم الموت وتنكيره للتفخيم كما أن تعليق الاتقاء به للمبالغة في التحذير عما فيه من الشدائد التي تجعل الولدان شيبًا {تُرْجَعُونَ فِيهِ} على البناء للمفعول من الرجع، وقرئ على البناء للفاعل من الرجوع والأول أدخل كما قيل: في التهويل، وقرئ: {يرجعون} على طريق الالتفات، وقرأ أبيّ تصيرون وعبد الله تردون {إِلَى الله} أي حكمه وفصله {ثُمَّ توفى} أي تعطى كملًا {كُلُّ نَفْسٍ} كسبت خيرًا أو شرًا {مَّا كَسَبَتْ} أي جزاء ذلك إن خيرًا فخير وإن شرًا فشر، والكسب العمل كيف كان كما نطقت به اللغة ودلت عليه الآثار، وكسب الأشعري لا يشعر به سوى الأشاعرة {وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ} جملة حالية من كل نفس وجمع باعتبار المعنى، وأعاد الضمير أولًا مفردًا اعتبارًا باللفظ، وقدم اعتبار اللفظ لأنه الأصل ولأن اعتبار المعنى وقع رأس فاصلة فكان تأخيره أحسن، ولك أن تقول: إن الجمع أنسب بما يكون في يومه كما أن الإفراد أولى فيما إذا كان قبله. أخرج غير واحد من غير طريق عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أن آية: {واتقوا يَوْمًا} الخ آخر ما نزل من القرآن، واختلف في مدة بقائه بعدها عليه الصلاة والسلام فقيل: تسع ليال، وقيل: سبعة أيام، وقيل: ثلاث ساعات، وقيل: أحدًا وعشرين يومًا، وقيل: أحدًا وثمانين يومًا ثم مات بنفسي هو حيًا وميتًا صلى الله عليه وسلم. روي أنه قال: اجعلوها بين آية الربا وآية الدين، وفي رواية أخرى أنه صلى الله عليه وسلم قال: «جاءني جبرائيل فقال: اجعلوها على رأس مائتين وثمانين آية من البقرة» ولا يعارض الرواية عن ابن عباس رضي الله تعالى عنه في أن هذه آخر آية نزلت ما أخرجه البخاري، وأبو عبيد، وابن جرير، والبيهقي من طريق الشعبي عنه رضي الله تعالى عنه أنه قال: آخر آية أنزلها الله تعالى على رسوله صلى الله عليه وسلم آية الربا، ومثله ما أخرجه البيهقي من طريق ابن المسيب عن عمر بن الخطاب كما قاله محمد بن سلمة فيما نقله عنه علي بن أحمد الكرباسي أن المراد من هذا أن آخر ما نزل من الآيات في البيوع آية الربا، أو أن المراد إن ذلك من آخر ما نزل كما يصرح به ما أخرجه الإمام أحمد. اهـ.